مقتطفات من الشهادات:
الأستاذ مروان حماده:
غاب العيد، وبقيت الذكرى
سبعون عاماً اقتطعوا منها عشر سنوات، إنه قضاء الله عز وجل، لكن الفعلةُ، فعلةُ من انتحلوا إسمه زوراً، فإذا بك شهيد الوطن والأمة.
أستميحكم عذراً
لن أرتدِ اليوم قفازات المداهنة.
سبعون عاماً، أبا بهاء، حُرمت من بعضها فحُرم الوطن اللبناني وحرمت الأمة العربية من شخص فذ ومن فرصة نادرة، كانت لحظة اغتيالك المحطة الفاصلة بين الامل واليأس، بين البناء والتدمير، بين فلسفة الحياة العامرة، المبتسة، المتفائلة، المقدامة، الراعية، الموفِقّة والموفقّة وبين فلسفة الموت بفقه البعض وأوليائهم وتكفير الآخرين وأمرائهم. تذكير بسيط: الوفاق عممته أنت. واجهوك بالنفاق. اليد مديتها أنت. واجهوك بالقطع.
رفيق بهاء الدين الحريري. يا من عرفتك قائداً عربياً فذاً منذ أن حُملت على أكتاف القوميين العرب لتردد معهم ثم تمارس شعارات الوحدة والحرية والاستقلال والعدالة والحداثة والتقدم. تابعت عصاميتك الشعبية والمهنية إلى أن توليت مهاماً ضخمة في بلد صغير بحجمه كبير بأبنائه وأنت خيرة هؤلاء وأنت فخرهم.
عرفتك موفّقاً ومدبّراً إبّان المحن. عرفتك حتى قبل أن أتعرّف عليك منقذاً تواجه نكبات صيدا والجنوب وبيروت ولبنان، مدافعاً عن المقاومة.
عرفتك خلال اندفاعك لإنقاذ لبنان من حربه المشؤومة، تتخطى مطلقي النار وخطوط تماسهم فيما أنت لم تطلق النار يوماً على أحد.
عرفتك منظماً ومرشداً لكل مؤتمرات الوفاق، أباً لميثاق معطوف على وثيقة الاستقلال الأول يكرّس الاستقلال الثاني ويفتح النوافذ على المستقبل الواعد.
وبمناسبة عيدك السبعين سيكون اللقاء الحقيقي أمام المحكمة، محكمة الدول ثم محكمة الشعوب وصولاً إلى محكمة السماء بدايةً واستئنافاً وتمييزاً.
أيام تفصلنا عن هذه المواجهة، لعلً العدالة الموعودة تعطي للحقيقة الواضحة غطاء الأرض والسماء.
سبعون عاماَ. ربما سبقناك في عديد الأيام لكنك سبقت الجميع وبأشواط في الدنيا والآخرة. رحمات الله عليك يا رفيق.
الأستاذ محمد الأمين عيتاني:
"استودع الله سبحانه وتعالى، هذا البلد الحبيب لبنان وشعبه الطيب وأعبر من كل جوارحي، عن شكري وامتنناني لكل الذين تعاونوا معي خلال الفترة الماضية"
هكذا أراد الرئيس الشهيد أن يختم مسيرة سياسية قد لا تجود بمثلها الايام، ولا ازعم أنه بالإمكان، وحتى بعد تسع من سنوات استشهاده، أن نحيط بدقائق خلفيات تلك الفترة من تاريخ لبنان السياسي ومدى انعكاساتها وتأثيرها على لبنان والعالم العربي. لكن جُلّ ما أسعى إليه في هذه العجالة هو الإضاءة على بعض الأحداث البيروتية التي واكبها اتحاد جمعيات العائلات البيروتية مع رجل استثنائي فتجربته معين لا ينضب علينا أن ننهــل منه لمواجهة مشاكلنا الحالية.
لم تغب بيروت عن قلبه وعينيه فكان يشعر بالحزن والغصة كلما شهدت عاصمة بلاده جولة من جولات العنف، إلا أن هاجسه الأكبر كان كيف تم تفريغ العاصمة وبقدرة قادر من رموزها وقادتها تهجيراً ونفياً. فأدرك أن الوقت قد حان للعودة إلى العائلة البيروتية، اللبنة الأساسية في بناء المجتمع البيروتي.
لقد شعر الرئيس الشهيـد أن اتحــاد جمعيات العائلات البيروتية يمثــل الإرادة البيروتية تمثيـلا" حقيقيـا"، وأنه يعكــس بتركيبته، وبالشكل الصحيح، ديموقراطية هذه الإرادة. فالاتحـاد يضم ممثلين لهيئـات منتخبـة من قبـل عائلاتها، لا أفرادا" من عائلات متنوعة تم تعيينهم بصورة عشوائيـة. فأولى الرئيس الاتحاد رعايته واهتمـامه وشجعه على إثبات قدراته على الساحة اللبنانية ضمن هامش "واسـع" من الحريات والإمكانات التي كانت توفرها سلطة الوصاية آنـذاك. تابع الاتحــاد مسيرة الرئيس بصورة يومية، وأضحى منبرا" حرا" يدافع عن العاصمة ومصالحها. وبعد أن تناست بيروت خلافاتها المحلية الضيقـة وسلمته دفـة القيـادة، ازدادت الضغوط على الرئيس، وكان كلما ازدادت شعبية الرئيس ازداد الضعط عليه لإحراجه تمهيدا" لإخراجه. ومهما يكن من أمر فإن واقعـة المدارس، وعشـرات مثلها، لم تكن إلا نموذجا" صارخا" لهذه المحاولات الموثقـة.
يبقى أن أقول إن مشروع الرئيس باق وأعمار الطغاة قصار، وحامل الراية دولة الرئيس سعد الحريري يقود بجدارة جمهور الرئيس على امتداد ساحات الوطن، ويقض بنهج الاعتدال مضاجع الـمتفلتيــن من بناء الدولة السيدة والقادرة والعادلة.
في يوم ميـلادك أختـم لأقول:
يـا رفيق بيروت في ضيقهـا، ويــا حريـر وشـاح عزهـا
أعانق اليوم في ذكراك أيهما رؤياك تولد أم رؤياك تبتسر.
الدكتور داود الصايغ:
كان من قدره ومن أقدارنا أن نبقى في رفقة دائمة معه، في ما يتجاوز المناسبات المرتبطة بمحطات حياته واستشهاده. لأن مواكبتنا له هي رفقة حياة. وليس ذلك فقط بالنسبة لما أنجزه، وهو سيبقى شاهداً على مر السنين، بل لأنه ترك في الأفق تلك العلامة المضيئة، للباحثين أبداً عن الآفاق الجديدة، أكانت في هذا الشرق المضطرب أم في هذا الوطن الذي تنتصب أمامه اليوم التساؤلات المقلقة.
ماذا كان سيفعل لو كان بيننا اليوم؟ ذلك هو السؤال الذي يراود أذهان الكثيرين إزاء المحن المصيرية التي تعصف اليوم بالشرق العربي كله. وهو رجل المساحات الواسعة، أو إزاء الأخطار التي تتهدد لبنان حالياً. ألم يكن ليتمرد على ما يجري من مسسٍ وتعطيلٍ لمؤسّسات الدولة، من امتهان للثوابت التي قام عليها لبنان، من رفض لربطه بالمحاور المنافية لطبيعته وجره إلى حروب خارجية، ألم يكن ليدعو إلى تغليب الوطنية على العصبية والاعتدال على التطرف والغلو، والتعقل والحكمة على الغوغائية.
إنه كان ليفرح بالربيع العربي كما انطلق في بداياته، كما فرح معظم اللبنانيين لأحداث كانت ستوصل أصحابها إلى القناعات اللبنانية، لو لم يكن هناك من عَمِلَ على تغيير المسار السلمي لتلك التحركات، ويواجهها بالعنف الأعمى والمدمر كما حصل في سوريا. ولكن المنطلقات كانت واعية وجدية، وها هي مصر، بلسان مراجعها الدينية بالذات، وعبر وثائق الأزهر في مطلع 2012 تسجل بالإضافة إلى الحريات العامة كلها، حرية المعتقد بالذات، ورفض التوجهات التي تدين عقائد الآخرين ومحاولات التفتيش في ضمائر المؤمنين بهذه العقائد.
لقد كان الرئيس رفيق الحريري في منظار البعض رجل إعادة الإعمار، ولكنه كان في حقيقة مشروعه وعمق تفكيره رجل إعادة التأسيس. والتأسيس ليس حجراً فقط. إذ ما ينفع الحجر أمام تباعد البشر. لقد شاهد العديدين من أقربين وأبعدين يعبثون بالوطن الصغير على مدى ستة عشر عاماً، فنفر من فكرة الساحة وخشي على الركائز الأساسية من أن تهتز. وأراد رفع الركام من النفوس قبل الشوارع، مستعيناً بالصبر والجهد والإخلاص في حسن الوفاء للأصول.
فهو، عندما تبوأ مركز المسؤوليات في خريف 1992، كان قد واكب التطورات كلها في الثمانينات داخلياً وإقليمياً ودولياً، فاقترب من مشاكل اللبنانيين اليومية، وتطلع إلى المجتمع اللبناني ككل، ورأى في الشباب أمل الخروج من العنف واليأس فقرر دفعهم إلى الأمام، عبر مساعدتهم على التحصيل الجامعي. وكانت مخططات المستقبل قد بدأت ترتسم في فكره، تمهيداً للوصول إلى خريف 1989 في اتفاق الطائف. وهكذا توضحت رؤيته بالنسبة إلى لبنان
كان اتفاق الطائف قد اقرّ المناصفة التي حرص عليها الرئيس الشهيد كل الحرص، واعتبرها حجراً إضافياً صلباً يدعم البناء الأساسي. والذي كان ولا بد أن يبقى مصدر اطمئنان ليس فقط للقلقين بل تكريساً دستورياً لمجمل ما تمثله التجربة اللبنانية.
وبالرغم من القلق المشروع الذي يساور نفوس المسيحيين في لبنان وخارجه، إلا أن إقرار المناصفة يبدو اليوم كسدٍ منيع ليس في وجه المغامرين فحسب، بل في وجه كل من أراد أو يريد إعادة النظر في الثوابت، في أوهام ما يسمى المؤتمر التأسيس.
الدكتور فوزي زيدان:
مجلدات كثيرة كتبت عنه في أيامه وأكثر منها كتب بعد استشهاده، فقد كان الرئيس الشهيد رفيق الحريري في حياته مالىء الدنيا وشاغل الناس وما زال.
تشجعت مع بعض الزملاء المؤسّسين لندوة الأربعاء، وهي ندوة ثقافية أردناها منبراً للحوار العقلاني والمنطقي والعمل الوطني السليم بعيداً من الطائفية والمذهبية، على لقاء الرجل في إحدى زياراته القليلة إلى بيروت، لنطلب منه مساهمة مالية في إنشاء "مجمّع الأبحاث والتوثيق" الذي كنا أعددنا له دراسة مستفيضة وموازنة متواضعة، لكي يكون بنكاً للمعلومات الموثقة بحيث يساعد على تثبيت قواعد المنهجية العلمية للبحث والتحليل من أجل صنع القرار الصحيح. اجتمعنا مع الشيخ رفيق في منزل أحد الأصدقاء المشتركين مساء أحد أيام الآحاد من تشرين الثاني عام 1983. أعجب الرجل بموضوع المشروع وبالدراسة المقدمة، وزودنا بإرشاداته ونصائحه، وطلب منا تطوير المشروع، وعدم التوقف عند الموازنة المقررة.
استنتجت في ذاك اللقاء أن طموحات رفيق الحريري وتطلعاته كبيرة وغير محدودة، وتعلمت منه أن على الإنسان أن يستغل الفرص ويقبل التحدي والمغامرة، شرط أن تكون المغامرة مبنية على أسس مدروسة من ناحية التخطيط والتنفيذ. وأن يوجه الإنسان كل جهوده وطاقاته لإنجاح ما غامر من أجله، وأن نجاح المشاريع ذات الأهداف الكبرى يجب أن يكون بحجم هذه الأهداف، وأن يعمل بها ويديرها متخصصون ذوو كفاءات عالية يعطون كل أوقاتهم واهتماماتهم لعملهم في مقابل مردود مالي مجزٍ. كما دلت ملاحظاته على مشروعنا تميزه بذهنية متطورة وفكر متوقد ورؤى سديدة للمستقبل.
ولم تقتصر اهتمامات رفيق الحريري على الشؤون التربوية والإنمائية في لبنان، بل كان له دور كبير في الشؤون الوطنية، إذ ساهم بفاعلية في مؤتمر جنيف عام 1983 ومؤتمر لوزان عام 1984 سعياً إلى توطيد دعائم وفاق وطني حقيقي، كما كان له دور مؤثر في إسقاط اتفاق 17 أيار. والكل يعلم أن الشيخ رفيق كان عام 1989 مهندس اتفاق الطائف الذي أدخل تعديلات جوهرية على الدستور اللبناني، وأرسى مبدأ المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في مجلس النواب والمراكز العامة الرئيسية، وأعاد تشكيل السلطات لأول مرة منذ الاستقلال عام 1943، وأنهى الحرب الأهلية.
ولعل الجميع يعلم أيضاً، مهما تغافل بعضهم، أن رفيق الحريري كان مشروعاً رائداً للبنان متصالحاً مع ذاته، المواطنة فيه مساواة وحرية وعزة، والسيادة سياج أمان للبنانيات واللبنانيين بكل انتماءاتهم.
أفضل ما نعلي به عرفاناً بعطاءات رفيق الحريري، أن نحمي إرثه بالدفاع عن وحدة لبنان، فوق كل الانتماءات والعصبيات، وأنواء الشرق والغرب.
واتحاد جمعيات العائلات البيروتية، الذي لي شرف ترؤسه، والذي بارك الرئيس الشهيد رفيق الحريري إنشاءه ورعى أنشطته، يعاهد روحه الطاهرة بأن الاتحاد باقٍ على العهد والوعد، يتابع نهجه الوطني ومسيرته الرائدة بقيادة حامل الراية دولة الرئيس سعد رفيق الحريري الذي أثبت وعياً وطنياً كبيراً، وحكمة وحنكة في تدوير الزوايا، ورصانة في الأداء، وصبراً على تحمل مشاق الغربة وأذى الحاقدين، وتصميماً على تعزيز ركائز الوفاق الوطني وحماية لبنان من الأشرار والأعداء والحفاظ على استقراره واستقلاله وسيادته وكرامته.
وفي ذكرى مرور سبعين عاماً على ولادتك أيها الرئيس الخالد في ذاكرة بيروت والوطن، يا من رويت أرض بيروت المحروسة بدمائك الطاهرة فداء للبنان الحبيب، لا أجد شيئاً آخرأقوله سوى ... اشتقنالك، ولن نستكين قبل أن تقتص العدالة من المخططين والمحرضين والمنفذين لجريمة العصر التي أودت بأحلامنا في بناء دولة الحرية والكرامة والعدالة والمساواة.